سكريبت هَفاف بقلم الكاتب محمد عبد الرحمن شحاته
سكريبت هَفاف محمد عبد الرحمن شحاته
سكريبت هَفاف بقلم الكاتب محمد عبد الرحمن شحاته
هَفاف
-وأخرتها إيه يا عمّ نُعمان؟ طاقتي نَفَذِت.
-اصبُر يا مدحت يابني.. هانِت.
***
سواد الليل كان مُخيف، والطريق اللي هنمشي منه مكانش فيه أي مصدر ضوء، بس كُنّا متعوّدين نمشي منه كُل ليلة، لأن مفيش غيره بيوصّل للبَلَد.
مِن فترة وعَمّ نُعمان بيسلّيني في الطريق بالليل، تقريبًا من ساعة ما بدأت أحكي لُه عن اللي بَشوفه، لكن هوّ مفهمنيش صح، كان فاكر إنّ اللي حَكيت له عنّه بشوفه في الطريق بس، مكانش يعرف إنّ ده ممكن أشوفه في أي مكان، و في أي وقت.
بدأت احسّ إن خطوتي تقيلة، وإن في قوّة بتمنعني من إنّي أمشي لقُدّام، مكُنتش مستغرب، بس أنا عارف الأعراض دي كويّس، كُنت عارف إنّي هشوف حاجة دِلوقت، بس دي أوّل مرّة تحصل وأنا معايا عمّ نُعمان، لدرجة إني وقفت معدتش قادر أنقل رجلي خطوة من مكانها، نَدَهت على عم نُعمان اللي كان سبقني بكام خطوة، لكن لقيت نَفسي مُش سامع صوتي، ولا عمّ نُعمان كمان سامعني، وَقعت على الأرض، لحظتها مَلقتش عمّ نُعمان قُدّامي، اختفى، لكن الدُّخان الأزرق ظَهَر، وظهر معاه الشيء اللي بشوفه من فترة، أي نعم بيظهر لي في صورة بنت، بس صوتها كان صوت غليظ، وكمان إحساس الرَّهبة اللي بيبقى جوّايا ساعتها كان بيأكّد لي إنّه الشيء ده متخفّي في صورة البنت دي.
بس غريبة إنه يِظهر لي وعمّ نُعمان معايا، أكتر وقت كُنت ببقى مطَّمن فيه لما بيكون موجود، هوّ شيخ المسجد وعارف ربّنا، وكنت فاكر إن ده السبب اللي بيخلّي الشيء ده مبيظهرش وهوّ موجود، لكن إيه اللي اتغيّر عشان عم نُعمان يختفي والشيء ده يظهَر لي؟
معادش قُدّامي غير تفسير واحد للي بيحصل، هو إن دي لعنة مُش عارف حلّت عليّا منين، المرّة دي ظَهرت لي، ولأول مرة أشوف شعرها واصل للأرض، لابسة فُستان أبيض، بس معرفتش أشوف تفاصيل وِشِّها عشان كان في شَعر نازل عليه مِغطّيه، قرَّبت منّي، مدَّت إيدها ناحيتي وكان فيها ورقة، أخدت الورقة منها، فتحتها ولقيت مكتوب فيها "هَفَّاف".
حاولت استفسر منها عن الكلمة، لكنّها كانت اختفت، واختفى الدُّخان الأزرق، ولقيت عم نُعمان واقف بيبُص ناحيتي باستغراب، وبيقول لي:
-يا مدحت يابني.. أنت مُش سامعني؟
صَدَمني سؤاله وقُلت:
-هاااا.
جِسمي اتحرر من حالة الشلل اللي كان فيها، ولقيت نفسي قادر أمشي، قرّبت من عم نُعمان عشان أعطيه الورقة، لكن الورقة كمان كانت اختفت، مكنتش عارف اتكلّم واقول إيه، الموضوع بدأ يتعقّد، كنت فاكر إنّي بهلوس، أو إنّي بشوف تهيؤات، وفي الفترة اللي بدأت أشوف فيها الشيء ده كان مجرد إني بشوفه وبسّ، لكن دي أوّل مرّة يقرّب منّي ويتواصل معايا ويعطيني حاجة، وفي وجود عمّ نُعمان.
كُنت ماشي سرحان لدرجة إن عمّ نُعمان لاحظ، لقيته بيسألني:
-أنت كنت سرحان في إيه وبتبُص في إيدك وأنا بنده عليك ومُش سامعني يا مدحت يابني؟
لساني اتلجّم معرفتش ارد، بس لقيته بيسألني سؤال تاني:
-أنت شُفت حاجة من اللي حكيت لي عنها لمّا كنت سرحان؟
-أنا مَعُدتش عارف إيه اللي بيحصل لي، فجأة حياتي اتقلبِت لكابوس مُخيف، معُدتش عارف أركّز في دراستي، الشيء ده بيظهر لي في كل مكان، حتّى وأنا نايم بحلم بيه، الأوقات اللي كنت بطّمن فيها إنه مُش هيظهر لي لمّا بتبقى موجود، بس النهاردة القاعدة اتكَسَرت، ظَهَر لي من شوية، وأنت اختفيت.
الصمت اللي كان على وِش عم نُعمان كان غريب، محاوِلش يسألني أنا شوفت إيه، ولا علّق على كلامي، لكن أنا لمّا افتكرت الاسم اللي في الورقة سألته:
-عدّى عليك اسم "هَفَّاف" قبل كده؟
عم نُعمان بَص لي وقال:
-استعِذ بالله من الشيطان يابني.
وصلت للبيت، وعم نُعمان راح بيته عشان يلحق يرتاح شويّة قبل ما يروح المسجد يأذّن للفجر، فَتَحت نور الشَّقة، لكن للأسف متفتَحش، لكن الغريب إن النور كان شغّال فِ البيت كلّه، التعب كان قاتلني، دخلت ارتاح على السرير، اتمددت على ضهري وشبّكت إيدي تحت راسي، تفكيري مَفَصَلش، إيه اللي بيحصل معايا؟ وليه؟
حاجة زيّ البرق لمعت في سقف الأوضة، عيني غمّضت من شدّتها، لمّا فتّحت لقيت صورة البنت في السَّقف، مجرد صورة، لكن شعرها كان واصل لغاية وشّي، بَحلَقت في وِشّها لأول مرة، جمالها ممكن يوصّلك لإنك تتجنن، ابتسَمِت، بعدها قالت:
-متنساش عهدك يا مدحت.
مكنتش لسّه استوعبت اللي بتقوله، حبّيت اسألها عن العهد يمكن أفهم اللي بيحصل، لكنّها ضِحِكِت بصوت غليظ، ملامحها اتغيّرت فجأة، اتغيّرت لِمَسخ مُرعب، لون عنيها احمَرّ، أسنانها اتحوّلت لأنياب مخيفة، وزيّ ما شَعرها اتمدّ من السقف ووصل لغاية عندي، لَقيت إيدها بتتمد وبتقرّب من رقَبتي، كان فيها مخالب لونها أسود، قبل ما تقرّب من رقَبتي لقيتني بَفوق، قُمت من على السرير مفزوع، كنت بتنفّس بصعوبة، لكن النور كان موجود، ومكانش في أي حاجة من اللي شوفتها موجودة.
مكانش قُدّامي غير إنّي أخرُج من الشَّقّة، بصّيت في ساعتي لَقيت فاضل وقت قُليّل على أذان الفَجر، قرَّرت إنّي أروح المَسجد، في الوقت دَه أكيد عم نُعمان هيكون موجود، نزلت السّلّم وأنا خايف، رَعشة غريبة مَسكت جِسمي وأنا بقرأ كلمة "هَفَّاف" على حيطان السّلّم، بتظهَر وتختفي، حتّى في الشّارع وأنا بجري، كانت بتظهر قُدّامي على الأرض مع كُل خطوة بخطِّيها.
قاومت لغاية ما وَصَلت للمسجد، بس قبل ما أوصل المسجد لاحظت شخص غريب، كان لابس بالطو أسود مغطّيه من راسه وواصل للأرض، لمّا دقَّقت في ملامحه ماشوفتِش غير لون أسود، لا عين ولا ملامح ولا أي شيء، بس لمّا وَقَفت قدّام باب المسجد بصّيت ورايا مَلقتش الشخص ده.
بعد ما صلّينا الفجر، حكيت لعم نُعمان، بسّ لقيت منّه رد غريب، اقتَرَح عليّا نروح للسّباعي!
ازّاي عم نُعمان يفكّر في حاجة زيّ دي، دا شيخ مسجد، والسّباعي ده دجَّال، لكنّه قال لي:
-يمكن يِصدَق يابني.. أو على الأقل يفسّر لنا اللي بيحصل معاك، أو يفتَح لنا الباب.
مَكُنتش مُقتَنع، لكنّي وافِقت على رأيه، تجربة، مُش هخسر حاجة أكتر من كِدَه.
بَعد صلاة العِشا، كُنّا في بيت السِّباعي، ريحة البخور كانت خنقاني، هيئة السِّباعي مكانِتش مُريحَة، كُنت بسمع اسمه كتير، لكن أوّل مرّة أشوفه أو ادخُل بيته، قعدت انا وعم نُعمان على الكَنَبَة اللي قُدَّامه، خَد حِفنة بخور وحطّها في الرّاكية، بَعدها بَصّ لي وقال:
-بِتشوف إيه يا مِدحت؟
مَندَهشتش لمّا لقيته عارف اسمي، وعارف إن أنا اللي بَشوف، ناس زيّ دي ممكن يكون عندها أكتر من طريقة يعرفوا بيها معلومات سطحية عن الناس، دي شُغلِتهُم، حَكيت له من أوّل ما بدأت أشوف البنت، لِغاية ما عَطتني الوَرقة، وكان مكتوب فيها "هَفَّاف"، حَسّيت عينه بتوسَع وهو بيسمع الكلمة، بَعد ما بَص لي شويّة قال:
-غالبًا يا مِدحت حد عامل لك عَمَل، مسلَّط عليك جن مسيحي.
قُلت وأنا بَضحك:
-مَفيش حاجة اسمَها جن مَسيحي، الجن ما يعرفوش حاجة عن الدّيانة المَسيحيّة أصلًا.
حَسّيت بغضب على وِش السّباعي، تقريبًا أوّل مرّة يقابِل حد يعارض كلامه أو يقول له إنّه مُش صحيح، لكنّه قال لي:
-طالما اللي بتشوفه بدأ يتواصَل معاك يِبقى الموضوع كبير، لازم تخاف يا مِدحَت، وجود الشيخ نُعمان جنبك حِماية لك، حاول تبقى جنبه أطول فترة، مَتخليش اللي بتشوفه يِستَفرَد بِك.
ده كان دليل بالنسبة لي إن السّباعي مَيعرفش حاجة، عَشان كِده قُلت له:
-بَس ليلة امبارح ظَهر لي ومعايا عَم نُعمان، دا حتَى اللي بشوفه ما تواصَلش معايا غِير لما ظَهر لي أوّل مرّة في وجوده.
السّباعي بعد ما دوَّر كلامي في دماغه قال لي:
-حاجة من اتنين، يا إمّا وجود الشيخ نُعمان معاك مَنع عنّك حاجة أكبر من اللي حَصَلت، يا إمّا فَتح قُدّامك باب تعرف منّه إيه سبب اللي بيحصل لَك، حاول تِبقى جنبه على قَدّ ما تِقدَر، أكيد وجوده هيوصّلك لحاجة.
خَرجنا من بيت السِّباعي، عم نُعمان كان ساكِت، محبّتش أقطع عليه تفكيره، مَشيت جنبه وأنا بحاول استوعب، كنت حاسس من الأول إنّي داخل على طريق طويل، بس مكنتش متخيّل إن ممكن عم نُعمان يكون شريك في الطريق ده.
أخيرًا الصمت اتكسر، ولقيت عم نُعمان بيقول لي:
-هو إحنا رايحين للسّباعي عشان يقول لنا إيه سرّ اللي بيحصل، ولا عَشان تتجادل معاه؟
حسّيت إن كلام عم نُعمان مش مُجرّد سؤال عادي، كان عاوز يعرف أنا بفكّر في إيه، عشان كده ردّيت عليه الرَّد اللي هو منتظره:
-لو السِّباعي كان عنده حل كان قاله، هو بس أخد من كلامي وقال إنّي لازم أكون جنبك الفترة الجاية، ممكن يكون شاف في وجودنا في نفس الطريق باب يحل اللغز ده، حكاية إن التواصل يتم وأنت موجود ده في حد ذاته مُلفِت للنظر، يمكن هوّ بيلعب على النقطة دي، أكيد هو مُنتظر إن يحصل جديد، يظهر حاجة، تواصل مثلًا، ممكن يكون عنده ثقة إنّه لو جَد جديد هنرجع لُه.
-تِفتِكِر هايجِد جديد؟
-أكيد.. ولو إنّي شاكك في السّباعي ده من ساعة ما قال معمول لك عمل ومتسلّط عليك جن مسيحي.
-وإيه اللي خلّاك تِشُك في كِدَه؟
-عَشان بداية كلامُه كانت غلط، لمّا قال جن مَسيحي عرفت إن معلوماته غلط، ازّاي هَثِق في اللي هيقوله.
-إيه المُشكلة لما يقول جن مَسيحي؟!
-عَشان مفيش حاجة اسمها جن مَسيحي، هو النَّبي عليه الصلاة والسلام لمّا اجتمع مع جِن نُصيبين وسِمعوا القرآن، لمّا رجعوا لقومهم قالوا إيه؟ (قَالُواْ يا قومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى)، مُش لو كان الجِن يعرفوا المسيحية أو سمعوا بسيدنا عيسى كان قالوا كتابًا أُنزل من بعد عيسى مُش موسى؟ هو مش القرآن بعد الإنجيل يا عم نُعمان؟
-والله يامِدحَت يابني مُش عارف أقول إيه، بس أنت ناوي على إيه دلوقت؟
-أنا نَويت أكمل الطريق ده، أنا حاسس إنه ابتلاء، وإن ربنا اختارني لهدف هعرفه بعدين.
لمّا وصلنا للمسجد، اقترح عليّا عم نُعمان إنّي أسكن في أوضة فوق سطح المسجد، وقال لي إن دي أفضل طريقه نبقى فيها جنب بعض الفترة الجاية، وإن من الصعب إن الشيء ده يظهر في المسجد.
بدون اعتراض لقيتني وافِقت، بس طلبت منّه إنّي أروح أحضّر شنطة هدومي، وفعلًا روحت الشّقة، فتحت الباب ودخلت، بس اللي لقيته كان غريب، الشقة مقلوبة كأنّها متفتّشة، ورق مِتبَعتَر في كل حتة، وكان مكتوب "هَفَّاف" على الحيطة اللي في وِش الباب، مكتوبة بالدم، وبحروف متفرَّدة وكبيرة.
***
النُّوم مقرَّبش من عيني، حطّيت شنطتي في الأوضة وقعدت على سطح المسجد مع عم نُعمان، مرضاش إنّه يروّح، قرَّر إنّه يقعد معايا لغاية الفَجر، كلامنا كان عن اللي قاله السِّباعي، سألت عم نُعمان:
-تِفتِكر ليه السّباعي طلب إننا نكون جنب بعض الفترة الجاية؟
حسّيت إن عم نُعمان بيبتسم وهو بيقول:
-السّباعي عارف القصة، بس مُش راضي يكشف كل الأوراق دلوقت، هو تقريبًا منتظر وقت معيّن.
لقيتني بَبُص له وبقول:
-اشمعنى انت؟ وليه وافقت تروح وتيجي معايا بالليل؟ وليه الشيء اللي بيظهر لي ده تواصل معايا أوّل مرّة يظهَر لي في وجودك؟
كان وِشّه للسّما، زي ما يكون بيفكّر، بعدَها بَص لي وبدأ يتكلّم:
-إحنا أسباب لبعضِنا يا مِدحَت يابني، ممكن تكون ماشي طريق، ويعتَرِض طريقك حد، ويكون سبب في إنّه يغيّر مسارك وياخدَك في اتّجاه مكُنتش تتوقّعه، قدَرَك بيكون في الاتجاه ده، ومهما بِعدت عن قَدَرَك هتلاقي في طريقك السَّبب اللي يرجَّعك للطريق المكتوب عليك.
كلامه مكانش واضح، عشّان كده طلبت منّه يفسَّر أكتر، وبدأ يحكي بالتفصيل:
-لمّا حكيت لي عن اللي بتشوفه في أوّل الموضوع، عرفت إنها مُش هلاوس، خصوصًا إنّك حد مُتَّزن، وشاب مُتعلّم وواعي، وأنا عارف إن جذورك وأصلك بيمتدّ لحدّ من الأولياء، أنت روحَك شفّافة، ووجود حد زيّك ما بين النّاس شايل عنهم كتير.
-ناس مين؟ وإيه الكتير اللي أنا شايله عنهم؟
-شوف يا مِدحَت يابني، في نَاس عندها قوّة روحانية، النّاس دي مبتاخدش المِنحة دي بدون هدف، ربنا بيعطيها المِنحة دي عَشان تشيل عن الناس حاجات كتير، حاجات الناس العادية مالهاش طاقة ولا قُدرة إنها تتحمّلها، لكن أنت تِقدر يا مِدحَت.
ليه لمّا قُلت قُدَّامك كلمة "هَفَّاف" مجاوبتنيش، وقُلت لي استعِذ بالله.
-ما هو عشان أنت مُش هاتِقدَر عليه غير لمّا تستعِذ بالله وتستعين به ضدّه.
-ضِد مين؟
-هَفَّاف يا مِدحت يابني.
-مين هَفَّاف يا عَم نُعمان؟
-جِن خبيث، شُغلِتُه إنّه يظهر لبني آدم في صورة مُرعبة، عشان يرعبهم ومن خلال خوفهم يفضل مسيطر عليهم، ووجودك مانِع هَفَّاف من إنّه يمارس مهمّته.
شَكلك بيقول إنَّك تعرف حاجات كتير، إيه الحكاية يا عم نُعمان؟
-كُنت أنا وأبوك لسّه شباب، لمّا أبو السّباعي قرَّر يستغِل مهنته في الشَّر، الغرور عَمَاه، سِمعنا أخبار من حد كان قُريّب منّه إنّه بيحاول يعقِد عهد بينه وبين جِن اسمه هَفَّاف، عَشان يِطلِقُه على النّاس لأنَّهم ثاروا عليه وكانوا عايزين يطردوه من المكان، كانوا رافضين فِكرة وجود دجّال بينهم، وهوّ قرَّر ينتقم، وبمساعدة خَدَم الجِن اللي كانوا معاه عرِف يسخّره، بعد ما كان القُربان اللي قدّمه هو دَم من جثّة بنت في عز شبابها، تكون لسّه مَيِّتة جديد، وفي ليلة أنا وأبوك شُوفنا أبو السّباعي وهوّ بيدخل المَدَافِن، الليلة دي كان في شابّة مَيِّتة، شوفناه وهو بيفتَح عليها القَبر وبينحَرها، وبياخُد من دَمِّها، وبيتمِّم طقوس تسخير هَفَّاف قُدَّام قَبرها، فجأة لقيت أبوك بيقول لي شايف النّار اللي قدّام السِّباعي؟ أنا ما كُنتش شايف حاجة، أبوك بس اللي كان قادِر يشوف اللي بيحصل، وكان بيحكيلي، إن مع الوقت النار دي بدأت تتشكّل، بقت مَسخ بقرون، طوله كان قدّ طول أبو السّباعي مرّتين، لمّا هيئته اكتملت لقينا أبو السّباعي نِزل على ركبة في الأرض، وحطّ راسه في التراب، بَعدَها قام مِن الأرض، وحَصل بينهم حوار مِقدرناش نِسمعه من بعيد، بس كُل اللي قِدرنا نفهمه إن المَسخ هَفَّاف كان بياخد تعليماته من أبو اسّباعي، لكن الغريب اللي حصل إنه بعد ما خد تعليماته لِقيناه بيبُصّ ناحيتنا، ساعتها اضطرينا ننسحب بالرّاحة، من تاني ليلة بدأنا نسمع حكايات غريبة، إن في شبح بيظهر لأي حد بيمشي بالليل، ومن ساعتها كل الناس بطّلت تخرج بعد العِشا، دا طبعًا بعد ما اللي أبو السّباعي عاوزه حَصَل، ناس كتير راحت وطَلَبت منّه إنه يحصّنها ضد الشّبح اللي بيظهر، ومش محتاج أقول لك إنّه كان بيضحك عليهم، ولا كان بيعمل تحصين ولا حاجة، كان بيستغِل خوف الناس وضعفِهم وينتقِم منهم عَشان ثاروا ضدّه.
سألت عم نُعمان وقُلت لُه:
-هو أبو السِّباعي مات ازّاي؟
-محدش عارف هوّ مات ازّاي، بس غفير المَدافِن لَقاه ميّت قُدّام قبر البنت اللي أخد من دَمّها قُربان عَشان يكمّل طقوسه، وسمِعنا إنه جِسمه كان عامل زي الحَطب المحروق.
-طيّب والسّباعي، عارف اللي أبوه عمله وماشي على طريقته؟
-السِّباعي دجّال، وارث عن أبوه، بس أنا عارف إنه مُش بنفس السوء اللي كان أبوه عليه، عَشان كِده قُلت لك نروح لُه، عشان يِعرف إنه آن الأوان.
-أوان إيه يا عم نُعمان؟
-أنت مَلاحظتش حاجة في اللي كُنت بقوله؟
-حاجة زيّ إيه؟
-أبوك بس هوّ اللي شاف اللي كان بيحصل بين أبو السّباعي وبين هَفَّاف قُدّام القبر، أنتم من نسل أولياء، تِقدر تقول مكشوف عنكم الحِجاب، أبوك دَخل في حرب كبيرة مع المسخ ده، لَكن أجله حان وعُمره خِلص، لكن قال لي إنّك لمّا تِكبر هتكمل اللي كان بيعمله، وإن انت اللي هتقدر تِحرقه، ومن أوّل مرّة.
بَعد الفَجر عم نُعمان روَّح، وأنا كمّلت قَعدتي وتَفكيري سَارح، أنا اتفرَض عليّا طَريق كان مَفروض على أبويا، ومُضطر أكمل اللي أبويا عمله، وِرث ومكتوب عليّا أستلمه.
كِده الخيوط بدأت تتشبِّك، أكيد البِنت اللي بتظهر لي من فترة هي البنت اللي أبو السّباعي قدّم دمّها قربان، وأكيد لمّا ظهرت لي مع عم نُعمان أنا بسّ اللي شوفتها، زي ما حصل مع أبويا لمّا شاف اللي حصل قدّام القبر وعم نُعمان مشافوش.
أنا ملاحظ إن عم نُعمان موجود في الموضوع من أوّله، مع أبويا ومعايا، عشان كِده السّباعي طلب إني أكون موجود جنبه الفترة الجاية، حاجة كده زيّ حلقة الوَصل بين الماضي والحاضر، عشَان دايمًا يفكّرني بأبويا ويشجّعني أكمل الطريق.
افتكرت الكلام اللي قالته البنت ليّا، "متنساش عهدك يا مدحت"، أنا كُنت مستغرب الكلام، لكن دلوقت عرفت إن العهد ده مفروض عليّا، زي ما هو اتفرض على أبويا.
قرَّرت إنّي أروح بيتنا القديم، أبويا كان مُحتفظ بمكتبة كبيرة هناك، كنت واثق إنّي هلاقي أي حاجة فيها تساعدني إنّي أتغلّب على الجن ده.
كُنت بقلّب في الكُتب والأوراق لمّا نور البيت بدأ يِرعِش، الرَّعشة كانت غريبة، خلَّتني أبعد وِشّي عن الأوراق اللي في إيدي، بصّيت في الصالة، ساعتها النور انطفى خالص، في اللحظة دي شوفت هَفَّاف، بنفس الوصف اللي أبويا وَصَفه لعم نُعمان عند القبر، افتكرت كلام عم نُعمان وهو بيقول لي إن الاستعاذة بالله هي اللي هتخلّيني أتغلّب عليه، لقيت نفسي بقرأ المعوذتين وآية الكرسي، فِضلت أكرَّر فيهم لغاية ما صورته بدأت تبهت قُدَّامي واختفت، والنور رجع زي ما كان.
بين صفحات كتاب قديم، لقيت ورقة مكتوبة بخط أبويا، فيها اسم هَفَّاف، الصدمة قتلتني لمّا لقيتها هيّ نفس الورقة اللي البنت عطَتهالي لمّا ظهرت لي وأنا مع عم نُعمان، والكلمة مكتوبة بنفس الطريقة، حطّيتها في جيبي، وقلّبت في صفحات الكتاب، لقيت ورقة تانية مكتوب فيها إن الموضوع زي الدايرة، نقطة البداية هي نفسها نقطة النهاية، ومكتوب في طرف الورقة، "برهتية".
أخدت الورقة وخرجت من البيت، وعلطول رُوحت لعم نُعمان، كان واقف قُدّام المسجد وعلى وِشّه قلق، أوّل ما شافني قال:
-كُنت فين يا مِدحَت يابني؟.. قِلقتني عليك.
بدون كلام حطّيت إيدي في جيبي وخرَّجت الورقة، عطيتها لعم نُعمان، وقُلت له:
-نفس الورقة اللي البنت عطتهالي في أوّل مرة تظهر لي وأنت معايا، لقيتها في كتاب قديم في مكتبة أبويا.
بعدها ناولته الورقة التانية، اللي مكتوب فيها الموضوع زي الدايرة، وكلمة "برهتية"، مكنتش متوقّع إنه هيختصر عليّا المسافة بالشَّكل ده لمّا قال لي:
-الدايرة بتبدأ وتنتهي من نفس النقطة، ده معناه إن من النقطة اللي تمّت فيها طقوس تحضير هَفَّاف، هيكون نهايته، عند القبر يا مِدحَت.
لقيت نفسي بندفع وبقول له:
-يلا بينا نطلع المَدافِن.
ساعتها عم نُعمان مَسكني من إيدي وقال:
-مَتغلطش غلطة أبوك.. الدايرة لازم تكمل صح، المكان والزَّمان يا مدحت، بداية الدايرة ونهايتها عند القبر، المكان هيخدمك، وروح البنت اللي دمّها اتقدّم قربان هتساعدك، لكن المفروض يكون الوقت مظبوط، أكتر وقت روح البنت هتكون فيه في قمّة غضبها، أعتقد الوقت ده يوم موتها، في نفس الوقت اللي دَمّها اتقدم قُربان، ولازم كمان تتعلّم البرهتية، أنا هعلّمهالك.
-طيب وأنا هعرف الوقت ده منين؟
-أنا عارفه يا مِدحَت يابني.
اليوم اللي قال عليه عم نُعمان كان فاضل علية أربعين ليلة، الرَّقم ده حسّيت إنه له دلالة، وهو إنّي لازم أستعد كويّس للمواجهة، اعتزلت في أوضة المسجد، قلّلت أكل على قد ما أقدر، مكنتش بعمل حاجة غير إنّي بصلّي وأقرأ قرآن وبقول الأذكار وبحفظ آيات حرق الشياطين وبتعلّم البرهتية على إيد عم نُعمان، لغاية ما جِه الميعاد، وخدت عم نُعمان وروحنا المدافن، في نفس اليوم والوقت اللي أبو السّباعي كان بيكمل فيه طقوسه، بعد نُص الليل، عَم نُعمان مرضاش يقرّب، وأنا كمّلت لواحدي لغاية القبر.
وقفت وأنا عارف إنه لازم يِظهَر، كان ضَهري للقبر، بدأت أسمع صوت خَبط جوّاه، أنا معلوماتي عن القَبر إنه مفيش حد مدفون فيه غير البنت اللي دمَّها اتقدّم قُربان، بعدَها سمعت صوت البنت اللي بتطهر لي جوّه القبر، "متنساش عهدك يا مدحت"، قرَّبت للقبر أكتر وانا بحاول اسمع أي حركة أو صوت، ساعتها حسِّيت بإن الهوا بقى بَارد جدًا، بدأت أسمع صوت رياح، الأِشجار اللي في المدافن كانت بتتهزّ جامد، فجأة البرودة قَلَّت، وبدأت احس بحرارة.
بدأت الأرض قُدّامي يخرج منها نار، النار دي بدأت تتشكّل، وبعد لحظات لَقيتني واقف قُدَّام هَفَّاف وجهًا لوجه، بِقرونه المُخيفة وجسمه الضخم، وفي إيده حاجة زيّ الجنزير.
حسّيت إن رجلي مُش شيلاني، نزلت على رُكَبي في الأرض، إيدي اتكتّفِت مَكُنتش عارف أحرَّكها، رفَعت وِشّي لفوق، وحاوِلت أحرَّك لِساني بالقرآن، كان لساني تقيل جدًا، لَكن عزيمتي كانت أقوى، افتكرت عم نُعمان لمّا علّمني في الأربعين ليلة اللي فاتوا أسرار البرهتية، وعلّمني ازّاي أحرق بيها الجِن والمَرَدَة، التفتت ناحية عم نُعمان ولَقيته بيشاوِر بإيده زي ما كان بيعلّمني في الفترة اللي فاتت، فِهمت إنّه بيفكَرني بالبرهتية، قاومت وحرَّكت لساني وبدأت أردد أسماءها...
"بِرْهَتِيةٍ بِرْهَتِيةٍ كَرِيْرٍ كَرِيْرٍ تَتْلِيْهٍ تَتْلِيْهٍ طُوْرَانٍ طُوْرَانٍ مَزْجَلٍ مَزْجَلٍ بَزْجَلٍ بَزْجَلٍ تَرْقَبٍ تَرْقَبٍ بَرْهَشٍ بَرْهَشٍ غَلْمَشٍ غَلْمَشٍ خُوطِيرٍ خُوطِيرٍ قَلْنَهُوْدٍ قَلْنَهُوْدٍ بَرْشَانٍ بَرْشَانٍ كَظْهِيرٍ كَظْهِيرٍ نَمُوشَلَخٍ نَمُوشَلَخٍ بَرْهَيُولا بَرْهَيُولابَشْكَيْلَخٍ بَشْكَيْلَخٍ قَزْمَزٍ قَزْمَزٍ أَنْغَلَلِيْطٍ أَنْغَلَلِيْطٍ قَبَرَاتٍ قَبَرَاتٍ غَياهَا غَياهَا كَيْدَهُوْلا كَيْدَهُوْلا شَمْخَاهِرٍ شَمْخَاهِرٍ شَمْخَاهِيْرٍ شَمْخَاهِيْرٍ شَمْهَاهِيرٍ شَمْهَاهِيرٍ بِكَهْطَهُوْنَيْةٍ بِكَهْطَهُوْنَيْةٍ بَشَارِشٍ بَشَارِشٍ طُوْنَشٍ طُوْنَشٍ شَمْخَابَارُوْخٍ شَمْخَابَارُوْخٍ"
بعدَها صَرَخت بكل قوّتي:
-انصرف يا ملعون.. لعنة الله عليك.. ارجَع للجحيم اللي أنت جاي مِنُّه.. لعنة الله عليك وعلى اللي حضَّرَك.
بعدها قرأت آية الكرسي بصوت عالي، كُنت كل ما أنتهي منها أعيدها من الأوَّل، حسّيت بالأرض بتتزلزل، وصورة المَسخ اللي قُدَّامي بدأت تشوّش وتتحول لنار، وحسّيت كأن حاجة اتمدَّت من تحت الأرض وسحبته واختفى.
كل حاجة رجعت لطبيعتها، الهوا والهدوء، حتى جسمي بقى بيتحرَّك طبيعي، قُمت مِن مكاني، وقبل ما اتحرَّك ناحية عم نُعمان سِمعت ضِحكة خارجة من القبر، ضِحكة حد ارتاح بعد تَعب.
لمّا وصلت عند عم نُعمان مَدّ إيده لي، وقال:
-حَمد الله على سلامتك يا بني.
قُلت له:
-كِدَه الموضوع انتهى؟
قال لي:
-انتهى يابني خلاص.. مكانش هينصرف غير بالبرهتية.
كلامه خلّاني أسأله:
-ولمّا أنت عارف كِده.. ليه مصرفتوش طول السنين اللي فاتت دي؟
-ما هو مُش أي حد يابني يِقدر يستخدم البرهتية، لازم تكون روحانياته عالية، أو من نسل الأولياء، وأنا لا دَه ولا دَه، مُش كل اللي في إيده سلاح بيعرف يستخدمه، أبوك كمان كان يقدَر يعمِل ده، بس العُمر خانه، بس اللي خلّف ماماتش، يلا نمشي عشان الفَجر قرَّب.
مَشينا، كُنت حاسس بطمأنينة أوّل مرّة أحسّها، عم نُعمان كان بيحكي لي عن طفولته هوّ وأبويا، كان بيحكي ومبسوط، وأنا كُنت بسمع وفرحان إن في حد فاكر كل الذكريات اللي بينه وبين أعز أصدقائه حتى بعد ما مات.
وصَلنا للمَسجد، عم نُعمان سَبقني عشان يلحق يأذّن، وأنا كمّلت لباب المسجد على مَهلي، لكن جنب الباب شوفت البنت، بَسّ المرّة دي شوفتها بدون تشويش، وبدون ما يكون شكلها مُخيف، وِشّها منوّر ومبسوطة، كأنّها مكانتش بتعاني الفترة اللي فاتت دي كلّها.
***
اعمل شير ومنشن لصديقك اللي بيحب النوع ده من القصص وتابع الأكاونت عشان يوصلك الجديد ❤
#هَفَّاف
#محمد_عبدالرحمن_شحاتة
#أخصائي_رعب
تعليقات
إرسال تعليق