روايه ساحير ناوابقلم محمد عبد الرحمن شحاته
روايه ساحير ناوا
القرية نائمة عن بِكرة أبيها، ليس هناك أحد مستيقظ سواي
، تسللتُ في الظلام إلى شاطئ النهر بعد أن جمعتُ الكثير من الحَطَب حيث وضعته في قاربي الصغير، ثم جدَّفتُ عبر النهر باتجاه الجزيرة التي ظهرت حديثًا بالقرب من قريتنا.
ما إن وصلتُ إلى شاطئ الجزيرة حتى أوقفتُ القارب، ثم قفزتُ منه إلى الجزيرة كي أربطه إلى وتدٍ مغروس بالقُرب من الماء حتى أستطيع نقل الحطب إلى أرض الجزيرة، جمعته في كَومةٍ واحدة ووضعت فوقه القليل من الكيروسين، ثم ألقيت فوقه عود ثقاب مُشتعل.
حرَّرتُ القارب قبل أن أقفز إليه، ثم جدَّفتُ مُسرعًا باتجاه القرية، أوقفتُ قاربي في مكان بعيد بحيث لا يعثر عليه أحد، اشتعلت النار وارتفع الدخان في السماء، مما مكَّنني من رؤيته من تلك المسافة، هرولت في ظلام القرية وأنا أُردِّدُ بصوتٍ مرتفع كي أوقظَ النائمين:
-النار، النار تشتعل في الجزيرة من تلقاء نفسها.
استيقظتِ القرية في هلعٍ، لقد غادروا منازلهم كي يشاهدوا الدخان وهو يصعد من الجزيرة حتى السماء؛ ليسألني أحدهم:
-كيف تشتعل النار في الجزيرة من تلقاء نفسها؟
قلتُ وكأنّني مُنِحتُ الفرصةَ التي أنتظرها:
-تسألني كيف تشتعل النار من تلقاء نفسها ولا تسأل كيف ظهرت هذه الجزيرة من العدم منذ سنوات قريبة؟!
قال وكأنه لم يفهم ما أقصده:
-كيف تقصد بأن الجزيرة قد ظهرت من العدم؟
-أقصد أنها ليست جزيرة كما نظن، بل هي موطنٌ السَّحَاحير، لقد اختارت أن يكون موطنها هنا.
-ماذا تقصدُ بالسَّحَاحير؟
قلتُ ولم يَكُن في مُخيِّلَتي وصفٌ مُحدَّد:
-عفاريت على هيئة نساءٍ لهنَّ ذيل، يَقُمن بإظهاره لمن يُرِدنَ قَتلَه.
لقد تجمَّدَ الرجل فأحسستُ أنه تحوَّل إلى جثة مُحنَّطة، ثم انطلق من أمامي يصرخُ في كل من يُقابله:
-الجزيرة مسكونة بالسَّحَاحير.
لم أكن بحاجة لأن أفعل أكثر من ذلك، فقط أتسلل كل ليلة إلى الجزيرة كي أشعل النيران في الحطب الذي أقوم بجمعه، ثم أعود متسلِّلًا إلى البيت؛ لتستيقظَ القرية كعادتها عند الفَجر فترى الدخان يتصاعد في السماء والنيران تندلع أسفل منه في الجزيرة، كانت لديَّ الرغبةُ في امتلاك الجزيرة واستصلاحها لنفسي، ثم سمعتُ أحدًا من القرية يفكّر فيما أفكّر فيه، فلم أجد أنسب من تلك الحيلة حتى أُبعِدَ الناس عن الجزيرة، ولأننا قرية تؤمن بالخرافة، نَجَحَت حيلتي كما خطَّطتُ لها.
في الآونةِ الأخيرة، أصبح سكان القرية لا يذهبون كثيرًا إلى الشاطئ المقابل للجزيرة، وإن ذهب أحدهم إلى هُناك مُضطرًّا فكان يحرص على مغادرة المكان قبلَ الغروب، أسعدني ذلك الأمر جدًّا، وما أسعدني أكثر هو أن خبر السَّحَاحير التي تسكن الجزيرة قد انتشر في القُرى المجاورة، حتى وصل الأمر بالشَّائعة أن القُرى المجاورة أصبحت تقول: إن سُكّان قرية "نَاوا" قد تحوَّلوا جميعهم إلى سَحَاحير، لقد نجحت خطَّتي بشكل كبير، أكبر مما خطَّطتُ له.
لم أتوقَّف عن التسلل إلى الجزيرة ليلًا كي أشعل النيران، حتى لا ينسى أهل قريتنا وأهل القُرى المجاورة، وكي لا يفكّر أحد في الاقتراب من الجزيرة واكتشاف حقيقة الأمر.
ذات يوم في مقهى القرية، جلستُ في الصّباح كي أدخِّنَ الشّيشة، في تلك المرّة انهالت الأسئلة من الناس فوق رأسي؛ لقد لقَّبوني بمُكتَشِف السَّحَاحير، هُنا سألني أحدهم قائلًا:
-كيف اكتشَفتَ أمر السَّحَاحير؟
قُلتُ وأنا أبحثُ عن إجابة مقنعة:
-كنتُ أسير على شاطئ النيل في الليل، ثم لمحتُ عينًا مضيئة تطلُّ من الماء، حينها اختبأتُ خلف جذع شجرة كي لا تتمكّن من رؤيتي، ظللتُ أرقُبها حتى خرجت من الماء، ثم صَعَدَت فوق الجزيرة، فتاة بارعة الجمال، شَعرها يلامس الأرض، لقد رأيتها في الظلام وكأنها تُضيء، ثم لمحتُ ذيلًا يخرجُ من أسفَل عباءتها، قبل أن تجمع حطبًا كثيرًا، ثم تجلسُ أمامه وتشعل النيران فيه.
-وكيف عَرَفَت أن اسمها السَّحَاحير؟
-لقد أطلقتُ عليها ذلك الاسم لأنها تَسحر الأعين، لقد كانت على وَشَكِ أن تسحرني.
-وماذا تعرف عن السَّحَاحير بعد؟
-إذا أظهرنَ ذيولهنَّ فهذا يعني أنهنَّ ينوين القتل، إنهنَّ يقتلنَ الرجال إذا اقتربوا من موطنهنّ.
-لقد أُشيعَ أنَّ السَّحَاحير انتشرن في القرية، يتمثّلن على هيئة نساء نعرفهم، ونحن لا نستطيع أن نفرّق بين النساء وبين السَّحاحير، وبخاصة أن السَّحَاحير لا يُظهرنَ ذيولهنَّ إلا عند رغبتهم في القتل.
-شيء بسيط يمكن من خلاله أن نفرّق بين النساء والسَّحَاحير، إنهنَّ لا يقربنَ اللبنَ أبدًا.
لقد انتشر الحديث الذي قمتُ بتأليفه كما تنتشر النار في الهشيم، حتى أنه أصبح عادةً تسير عليه القرية، إن خبر اختفاء أي شخص باتَ يُفَسَّرُ على أن السَّحَاحير هي من قامت باختطافه، لقد وصل الأمر أيضًا إلى أنه إذا رغب شاب في الزواج من امرأة أن يطلب منها أن تشرب اللبن أمامه كي يطمئن أنها ليست من السَّحَاحير.
بمرور الوقت أصبحت الجزيرة لي وحدي، لم يقربها أحد ولن يفكّر أحد في ذلك، فمن الذي يفكّر في الاقتراب من موطن السَّحَاحير.
ذات ليل؛ كنتُ أعبر النهر باتجاه الجزيرة، الليلة سوف أبدأ في بناء كوخ صغير، ثم أضع فيه أدوات استصلاح الجزيرة التي سوف أحتاج إليها، في منتصف النهر سمعتُ ما يُشبه نقيقَ الضَّفادع، نظرت إلى الماء الذي يغطّيه الظلام، ولكنّي صُعِقتُ لمّا رأيتُ عينين تطلّان من الماء، أغمضتُ عينيَّ ثم عاودتُ فتحهما، ربما وقعتُ مثل القرية تحت تأثير الخُرافة التي اخترعتُها فأصابني الهذيان؛ لكنّي قمتُ بإغلاقِ عينيَّ وفتحهما كثيرًا دون أن يتغير شيء، إن العينين لازالتا تنظران إليَّ من الماء!
كيف يمكن أن أصدِّقَ أني أرى الآن ما قمتُ بخداعِ الناسِ به؟ دون إرادةٍ منّي، كنتُ أقومُ بالتجديف باتجاه الجزيرة، رغم أن الرغبة في داخلي كانت العودة إلى القرية؛ لكنَّ شيئًا ما يجبرني على الوصول إلى الجزيرة.
نزلتُ من القارب ثم دخلتُ الجزيرة، لقد رأيتها، امرأة تُصيبُ العقل بالذهول، لها عينان سوداوان وشَعرٌ أشدُّ سوادًا من الليل ينسدلُ ملامسًا الأرض، لقد اقتربت منّي، حاولتُ الرجوع إلى الوراء إلا أني افتقدتُ القُدرة على الحركة، ثم اقتربت بوجهها وهي تُخرجُ لِسانها، لقد كان طويلًا مشقوقَ الطرفِ يُشبه لسان الأفعى، أخذت تلثمُ وجهي بلسانها، ثم أحسستُ بشيء يُلامِسُ أقدامي، فنظرتُ فإذا بهِ ذيلها.
لا أعرف كيف استطعتُ الحركة، أطلقتُ لقدميَّ العنانَ هربًا من أمامها، حاولتُ الاختباءَ في الجزيرة؛ لكنّي أدركتُ أنه لا مخبأ لي هُنا، ليسَ أمامي سوى أن أغادر، بحثتُ عن الناحية التي تركتُ القارب فيها حتى عثرتُ عليه، ثم نزلتُ إلى القارب وبدأت التجديف باتجاه القرية، حينها لمحتُها تجلسُ القرفصاء أمام كَومَةٍ من الحطبَ لِتُشعلَ فيها النيران، بينما يطلُّ ذيلها من أسفل عباءتها.
حينما ابتعدتُ قليلًا عن الجزيرة؛ لمحتُ الكثير من الأعين في الماء وسمعتُ نقيقًا يُشبهُ نقيقَ الضفادع، جدَّفتُ بكل ما أوتيتُ من قوَّةٍ كي أعبر النهر، ثم نظرتُ خلفي فإذا بالكثير منهن يقفنَ على حافة النهر ينظرنَ إليَّ.
كيف يحدثُ هذا؟ أنا بالتأكيد لا أهذي ولا أحلم، إنّي أرى السَّحَاحير بالفعل.
لمّا وصلتُ إلى القرية عزمتُ على ألا أعودَ مرة أخرى إلى الجزيرة، فربما لا أنجو في المرة القادمة، ثم وقفتُ أنظرُ إلى الجزيرة فإذا بالدخانُ يتصاعدُ منها حتى السماء، فولَّيتُ ظهري للجزيرة وواصلتُ السَّيرَ إلى البيت.
بعدَ تلك الليلة؛ نسيتُ أمرَ الجزيرة والسَّحَاحير، حتى الناس في القرية والقُرى المجاورة أصبحوا لا يتحدثون عنها، لقد كان الجميع ينظر إليها بالقرب من النهر وهي ساكنة، لا دخان يصعد منها ولا شيء يتحرك فيها، حتى أنا أصبحتُ مثل الجميع.
لقد مرَّ عامان على تلك الليلة، وجدتُ أن العمر يمضي، إنها المرة الأولى التي أرى فيها جارةً لي بهذه الروعة، لم أرها بكل هذا الحُسنِ من قبل، لم أفكَر كثيرًا في التقدّم إليها لِخِطبتِها، اصطحبتُ أمّي وذهبنا، أتممنا الخِطبة ثم وجدتُ أمّي تطلبُ من العروس أن تشربَ قدحًا من اللبن، لم يستعجب الحاضرون من ذلك، فمنذ بدأت تلك العادة في القرية بعد أن اخترعتها وهي لازالت مستمرة؛ لكنّي تذكّرت ما مضى وابتسمتُ.
أمسكتِ العروس بقدحٍ من اللبن وشَرِبَت منه؛ فأطلقت أمّي الزغاريد وأتبعها بعض النسوة، ثم اتفقنا على أن يتم الزفاف بعد شهر واحدٍ.
ليلة الزفاف، كنتُ في غاية سعادتي، انتهى العُرس وانفضَّ الناس من حولنا، اصطحبتُ عروسي وأدخلتها إلى غرفتنا، جلسنا أمام صينية العَشاء الفاخِر، أكلتُ حتى امتلأت مِعدَتي، ثم لاحظتُ أنَّ عَروسي لا تأكل، قلتُ لها:
-لماذا لا تشاركيني أول طعام لنا؟
قالت بخجل:
-إن من عادتنا أن نأكل بعد رجالِنا.
ارتسمت فوقَ وجهي ابتسامةٌ خفيفة، ثم قمتُ كي أغسل يدي، وما إن عدتُ إلى الغرفة حتى وجدتُها خالية.
بحثتُ عن عَروسي كثيرًا فلم أجدها، هل لاذت بالفرار؟ من أي شيء تفرُّ إذًا، كنتُ أقفُ أمام المرآة أفكّرُ في السبب الذي جعل عروسي تفرُّ بهذه الطريقة، ثم انقطع الضوء فجأة، أظلمت الغُرفةُ تمامًا حتى أنني لم أستطع رؤية إصبعي حينما وضعته أمام عيني، ثم بدأ الظلام ينقشع رويدًا رويدًا، حتى استطعتُ رؤية ملامحي في المرآة مرة أخرى، ولكنّي لم أكن وحدي، لقد كانت عروسي تقف خَلفي، لقد رأيتها في المرآة وهي تُخرج لسانَها المشقوق وتلثم به رقبتي، ثم أمسكت أكتافي بيديها، بينما كان يصعد من خلفها ذيل طويل، نهايته كانت تُشبه رأس الرمح!
أضاءت الغرفة مرة أخرى، حينها لم أرَ عروسي التي كانت تعكسها المرآة من خلفي منذ قليل، بحثتُ عنها مرةً أخرى فلم أجدها، خرجتُ من الغرفة فوجدتُ أمي جالسةً فسألتني:
-هل عروسك بخير؟
حينها عرفت أن عروسي لم تغادر الغرفة، وإلا لما سألتني أمي عنها، لقد تلاشت كأنها لم تكن هنا من قبل.
غادرتُ البيت متجهًا نحو النهر، لا أعرف لماذا أخذتني أقدامي إلى هناك، وقفتُ على حافة النهر أتأمل الجزيرة، حينها وجدت عروسي على الناحية الأخرى، تجلس أمام كومَةٍ من الحطب كي تُشعلها، ثم تنظر نحوي وتضحك بشكل مخيف، بينما يخرج ذيلها من أسفل عباءتها!
عُدتُ مُسرعًا إلى البيت، لم أتحدث إلى أمي التي لازالت تجلسُ فوق أريكتها، دخلتُ إلى غرفتي وأغلقتُ البابَ خَلفي، حينها رأيتُ عَروسي جالسةً أمام صينية الطعام، لا زالت ترتدي فستان زفافها؛ لكنّها كانت بملامح أخرى، غير تلك الملامح فائقة الحُسن التي كُنت أراها في الفترة الماضية!
***
#سحاحير_ناوا
#محمد_عبدالرحمن_شحاتة
#أخصائي_رعب
تعليقات
إرسال تعليق