رواية الاله او الشيطان لعمرو الجندي
اسم الرواية: الآلة، أو: الشيطان يعرف الحقيقة أيضاً
الكاتب: عمرو الجندي
التقييم: ★★★★★
لا يمكنني أن أقول عنها شيئاً عدا إنها رحلة لدواخل النفس البشرية التي يغمرها الغموض .. رحلة تناقش اضطراب الآنية، ومرض السادية، والإسقاط، وتحلل مشاعر الإنسان المرفوض من بيئته.
وهي رحلة لاكتشاف ذواتنا قبل اكتشاف حقيقة ما يسعى كريستيان إليه .. رحلة البحث عن جواب داخلي للسؤال الأبدي الذي يراود فكرنا طيلة فترة قراءة الرواية: «لو أني كنت مكان من وقفوا أمام كريستيان ونظروا في عينيه وجهاً لوجه، ماذا سيكون رد فعلي؟ .. هل سأظل محتفظاً بمبادئي وأفكاري التي تقول لي أن الجمال والإبداع والذكاء البشري لا علاقة لهم بالجمال الجسدي؟ أم عساي سأتجرد من إنسانيتي أنا الآخر؛ فأضيع وسط تلك المفاهيم والمعايير الحمقاء التي صاروا يقيمون بها الإبداع والذكاء؟».
إن كريستيان ليس مجرد مثال أو بطل روائي .. إنه مرآة لأنفسنا، يعكس شيئاً خفياً نجهله عن ذواتنا .. فتارة تشعر تجاهه بالشفقة، وتارة أخرى تحس وكأن الضغط البشري أفقده صوابه.
ولكنك تهتدي في آخر المطاف إلى إجابة مؤكدة، وهي أن الوحدة كانت تقبع عميقاً في فؤاد كريستيان، وتنفذ إلى قلبه كما ينفذ السكين الحاد، لدرجة أنه صار لا يعرف نفسه، ولا يعرف شيئاً عدا الامتثال والاستسلام لتلك المعايير التي يقر بنفسه أنها سخيفة، مهملاً حقيقته وطبيعته وعفويته، متخفياً واضعاً قناعاً كاذباً على وجهه الدميم، مضحياً بعلاقته بنفسه، لأجل اكتساب محبة الآخرين.
رواية الاله او الشيطان لعمرو الجندي
إنها تظهر لنا حقيقة مرة صعب تقبلها، وهو أن نجاح المرء مرهون دائماً ببعض الأفكار البالية، التي صارت مع الأسف اعتقادات راسخة تتوارثها الأجيال، وبناء على ذلك؛ تخلق تلك المعتقدات مرضاً في نفوس الناس، وتحول الإنسان إلى وحش حاقد، لا يسعى إلا إلى الانتقام ممن سخروا منه يوماً، وممن أشعروه بأنه لا ينتمي لهذه الحياة.
ولكنها تبقي داخلنا سؤالاً، متى عثرنا على إجابة عليه؛ انتهت كل تلك الافتراضات، وهو: ما معنى الجمال من الأساس، ومن ذاك الذي يستطيع أن يجزم أن كريستيان كان دميماً أو جميلاً؟.
فلكل إنسان مصطلح خاص به عن الجمال .. وهذا لا يقودنا إلا إلى إجابة واحدة: وهو أن معايير الجمال أشبه بالنظريات غير المثبتة، التي يتعلل بها البعض تارة لإثبات صحة أقوالهم، وتارة أخرى ينفونها ويشككون في صحتها، فكأنهم ما عرفوها إلا لتكون حجة لهم تنفعهم في يوم ما، ليبرروا كلامهم، وليحاولوا إقناع الآخرين بشيء هم نفسهم لا يؤمنون به.
وهذا يهدينا لإجابة جديدة عن سؤالنا عن مفهوم الجمال:
وهو أنه مادام لكل بشري مفهومه الخاص، فمن العبثية أن نجعل مستقبلنا مرهوناً بكل تلك الآراء والأذواق والأفكار المختلفة للبشر، خاصة وأن الإنسان الواحد قد يعج بالتناقضات، ولا يثبت على فكرة معينة إلا بعد شقاء طويل، فما بالك بمجموعة كاملة تضم تلك الاختلافات دفعة واحدة؟.
ويهدينا لإجابة أخرى: وهي أن الحقيقة تكمن في داخلنا، وأن جوابها الذي نبحث عنه بعيداً، سنجده حين نسأل عنه قلوبنا.
وأن نظرتنا لأنفسنا هي الوحيدة التي تحدد مستقبلنا فعلاً.
وأن المجد مرهون بإيمان الفرد بقدراته .. فإن صارت ثقتك بنفسك مهزوزة، فلا تبحث عما يعيد إيمانك بنفسك خارجاً؛ فليس إرضاء الآخرين ما سيجعلك راضياً عن نفسك؛ ولكن شعورك بأنك ظللت محافظاً على آرائك واعتقاداتك وأفكارك، التي جعلتك إنساناً مميزاً فذاً، والتي جعلتك حتى الآن مختلفاً، محتفظاً بجوهرتك الإنسانية، هي نفسها التي ستشعرك بالرضا.
فإن كنت تبحث عن النجاح؛ فاعلم أنه يكمن في صدقك مع نفسك، وفي التعامل بعفوية مع الآخرين..
...
رواية الاله او الشيطان لعمرو الجندي
«الوجوه لا ذنب لها، وإنما هي النفوس»
فقد يكون الإنسان وسيماً ولكنه لا يعرف شيئاً عن النبل والشرف.
وقد يكون قبيحاً، ولكن ذا روح زاخرة بالجمال.
والشيء الذي يحول طفلاً صغيراً وبريئاً إلى شابٍ فاسدٍ قاتـلٍ، يسلك الطرق غير المشروعة في سبيل تحقيق حلمه الأناني؛ فإن هذا لا يحدث إلا بعد أن تتلاعب البيئة والمجتمع بقلبه الطيب المسكين، وبعد أن يفقد ذاته الإنسانية، ويسلم نفسه للهوى.
حال كريستيان كحال جميع أبطال الروايات العظيمة من قبله، كحال راسكولينكوف في الجريمة والعقاب، ونيكولاي ستافروجين في الشياطين، وديفيد جونز في ٣١٣..
كل هذه الأعمال جسدت سقوط الإنسان في مختلف الهوات السحيقة والاستسلام للهواجس والأهواء، وتعارض مبادئهم الإنسانية مع أفعالهم وقراراتهم التي سلبت عقول معظمهم تقريباً .. وكلها أعمال جسدت أكثر الآلام البشرية قوة ووجعاً، لدرجة إنكار الذات والشعور بالمتعة من خلال إذلالها ومشاهدتها من بعيد وهي تسقط من حافة الهاوية في حفرة الآثام والندم.
ولا أجد عبارة تصف ما أريد قوله، إلا الاقتباس الذي جاء على لسان مارميلادوف في الجريمة والعقاب: «أيها السيد الكريم، ليس الفقر رذيلة، ولا الإدمان على السكر فضيلة، أنا أعرف ذلك أيضًا، ولكن البؤس رذيلة أيها السيد الكريم، البؤس رذيلة، يستطيع المرء في الفقر أن يظل محافظًا على نبل عواطفه الفطرية، أما في البؤس فلا يستطيع ذلك يومًا، وما من أحد يستطيعه قط، إذا كنت في البؤس فإنك لا تُطرد من مجتمع البشر ضربًا بالعصا، بل تُطرد منه ضربًا بالمكنسة، بغية إذلالك مزيدًا من الإذلال، والناس على حق في ذلك، لأنك في البؤس أول من يريد هذا الذل لنفسه بنفسه»
ويتوافق مع هذا ما جاء على لسان نيلسون الشاب في رواية الآلة:
«أنت تعذب نفسك وتعرضها للهوان، وما أعرفه عن الحياة القصيرة التي عشتها بأن وحدهم البؤساء من يفعلون ذلك، ينغمسون في الإطاحة بأنفسهم، كأنَّ الألم الذي يتسببون فيه لأنفسهم يعزّيهم عن بؤسهم»
...
إنها رواية مجنونة تدور حول معرفة الحقيقة .. تلك الحقيقة التي كثيراً ما قدم البشر أرواحهم ثمناً للبحث عنها.
ويبقى سؤال أبدي طرحته على نفسي مراراً وتكراراً من قبل، أحيَته الرواية ثانية في ذهني:
«أيهما يؤلم أكثر؛ الأحلام التي لا محل لها من الواقع، أم الواقع الذي لا مكان يتسع له في عالم الأحلام؟».
...
اقتباسات:
«الحقيقة لا تكمن في الملامح، إنها في العقل والقلب، في دواخلنا؛ في أعمق أعمق أعماقنا، في تلك البؤرة الصغيرة البعيدة المتوارية داخلنا في الظلام».
«الأرض تعج بالأموات أكثر ممَّا تعج بالأحياء، فالكثير من الناس يهيمون في تلك الحياة بلا هدف، ينتظرون اللحظة الأخيرة بفارق الصبر، كأنهم أموات تقرر تأجيل دفنهم».
«غالبًا ما تكون الحقيقة واضحة أمامنا، ولكننا نأبى رؤيتها بملء إرادتنا، ونشرع في البحث عنها بعيداً عن وجودها الحقيقي».
...
واعترف كريستيان قائلاً في النهاية:
«خطيئتي هي أني كرهت ما وهبني الرب، لم أسع لاكتشاف الحكمة وراء دمامتي، لم أفهم المغزى الإلهي، بل حولته لعدو قديم واندفعت في مقاتلته حتى صرت ما أنا عليه الآن؛ نفس ملـعونة وجسد لا ينتمي لي».
وختاماً: فإن الغرض من هذا كله هو تحليل النفس البشرية وحل مشاكلها النفسية عن طريق تجسيد الأسباب التي أدت إلى تفاقمها في أعمال أدبية، وهذا ما ينجح فيه الجندي دائماً.
تعليقات
إرسال تعليق